الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
أحد المدرسين بالأزهر تلقى عن أشياخ عصره ودرس وأفاد وكان به انتفاع للطلبة تام عام وألف أعراب الآجروميـة وغيـره. توفي في عاشر صفر من السنة. ومـات الأميـر الكبير محمد بك أبو الذهب تابع علي بك الشهير اشتراه أستاذه في سنة خمس وسبعين فأقام مع أولاد الخزنة أيامًا قليلة وكان إذ ذاك اسمعيل بك خازندار فلما أمر اسمعيل بـك قلـده الخازنداريـة مكانـه وطلـع مـع مخدومـه إلـى الحـج ورجـع أوائل سنة ثمان وسبعين وتأمر في تلـك السنـة وتقلـد الصنجقيـة وعـرف بأبـي الذهـب. وسبـب تلقبـه بذلك أنه لما لبس الخلعة بالقلعة صار يفرق البقاشيش ذهبًا وفي حال ركوبه ومروره جعل ينثر الذهب على الفقراء والجعيدية حتـى دخـل إلـى منزلـه فعـرف بذلـك لأنـه لـم يتقدم نظيره لغيره ممن تقلد الأمريات واشتهر عنه هذا اللقب وشاع وسمع عن نفسه شهرته بذلك فكان لا يضع في جيبه إلا الذهب ولا يعطي إلا الذهـب ويقـول: أنـا أبو الذهب فلا أمسك إلا الذهب. وعظم شأنه في زمن قليل ونوه مخدومه بذكـره وعينـه فـي المهمـات الكبيـرة والوقائـع الشهيـرة وكـان سعيـد الحركـات مؤيـد العزمـات لـم يعهـد عليه الخذلـان فـي مصـاف قـط وقـد تقدمـت أخبـاره ووقائعه في أيام أستاذه علي بك وبعده واستكثر مـن شـراء المماليـك والعبيد حتى اجتمع عنده في الزمن القليل ما لا يتفق لغيره في الزمن الكثير وتقلدوا المناصب والأمريات. فلما تمهدت البلاد بسعده المقرون ببأس أستاذ خالف عليه وضم المشردين وغمرهم بالإحسان واستمال بواقي أركان الدولة واستلين الجميع جانبه وجنحوا إليه وأحبـوه وأعانوه وتعصبوا له وقاتلوا بين يديه حتى أراحوا علي بك وخرج هاربًا من مصر إلى الشام واستقر المترجـم بمصـر وسـاس الأمـور وقلـد المناصـب وجبـى الأمـوال والغلـال وراسـل الدولة العثمانية وأظهر لهم الطاعة وقلد مملوكه إبراهيم بك إمارة الحج تلك السنـة وصـرف العلائف وعوائد العربان وأرسل الغلال للحرمين والصرر وتحرك علي بك للرجـوع إلـى مصـر وجيـش الجيـوش فلـم يهتم المترجم لذلك وكاد له كيدًا بأن جمع القرانصة والذين يظن فيهم النفاق وأسـر إليهـم أن يراسلـوا علـي بـك ويستعجلـوه في الحضور ويثقوا مساوئ للمترجم ومنفرات ويعدوه بالمخامرة معه والقيام بنصرته متى حضر وأرسلوها إليه بالشريطة السرية. فراج عليه ذلـك واعتقد صحته وأرسل إليهم بالجوابات وأعادوا له الرسالة كذلك باطلاع مخدومهم وإشارته فعند ذلك قوي عزم علي بك على الحضور وأقبل بجنوده إلى جهة الديار المصرية فخرج إليه المترجم ولاقاه بالصالحية وأحضره أسيرًا كما تقدم. ومات بعد أيام قليلة وانقضى أمره وارتاح المترجـم مـن قبلـه وجمـع باقـي الأمـراء المطروديـن والمشرديـن وأكرمهم واستخدمهم وواساهم واستوزرهم وقلدهم المناصب ورد إليهم بلادهم وعوائدهم واستعبدهم بالإحسان والعطايا واستبدلهم العز بعد الذل والهوان وراحة الأوطان بعد الغربة والتشريد والهجاج في البلدان. فثبتت دولته وارتاحت النواحي من الشرور والتجاريد وهابته العربان وقطاع الطريق وأولاد الحرام وأمنت السبل وسلكت الطرق بالقوافل والبضائع ووصلت المجلوبات من الجهـات القبليـة والبحرية بالتجارات والمبيعات. وحضر والي مصر خليل باشا وطلع إلى القلعة على العادة القديمة وحضر للمترجم من الدولة المرسومات والخطابات ووصل إليه سيف وخلعة فلبس ذلك فـي الديـوان ونـزل فـي أبهـة عظيمـة وعظـم شأنـه وانفـرد بإمـارة مصـر. واستقـام أمره وأهمل أمر اتباع أستـاذه علـي بـك وأقـام أكثرهـم بمصـر بطـالًا. وحضر إلى مصر مصطفى باشا النابلسي من أولاد العضم والتجأ إليه فأكرم نزله ورتب له الرواتب وكاتب الدولة وصالح عليه وطلب له ولاية مصـر فأجيـب إلـى ذلـك ووصلت إليه التقاليد والداقم في ربيع الثاني سنة ثمان وثمانين. ووجه خليـل باشـا إلـى ولايـة جـدة وسافـر مـن القلـزم فـي جمـادى الثانيـة وتوفـي هنـاك وفـي أواخـر سنـة سبع وثمانيـن. شـرع فـي بنـاء مدرستـه التـي تجاه الجامع الأزهر وكان محلها رباع متخربة فاشتراها من أربابها وهدمها وأمر ببنائها على هذه الصفة وهي على أرنيك جامع السنانية الكائن بشاطئ النيل ببولاق. فرتب لنقل الأتربة وحمل الجير والرماد والطين عدة كبيرة من قطارات البغـال وكذلـك الجمـال لشيل الأحجار العظيمة كل حجر واحد على جمل وطحنوا لها الجبس الحلواني المصيـص ورمـوا أساسها في أوائل شهر الحجة ختام السنة المذكورة ولما تم عقد قبتها العظيمة وما حولها من القباب المعقودة على اللواوين وبيضوها ونقشوا داخـل القبـة بالألـوان والأصبـاغ وعمل لها شبابيك عظيمة كلها من النحاس الأصفر المصنوع وعمل بظاهرها فسحة مفروشة بالرخام المرمر وبوسطها حنفية وحولها مساكن لمتصوفة الأتراك وبداخلها عدة كراسي راحة وكذلـك بدورهـا العلـوي وبأسفـل مـن ذلـك ميضـأة عظيمـة تمتلئ بالماء من نوفرة بوسطها تصب في صحن كبير من الرخام المصنوع نقلوه إليها من بعض الأماكن القديمة ويفيض منه فيملأ الميضأة وحول الميضأة عدة كراسي راحة وأنشأ ساقية لذلك فحفروها وخرج ماؤها حلوًا فعد ذلك أيضًا من سعده مع أن جميع الآبار والسواقي التي بتلك الخطة ماؤها في غاية الملوحة وأنشأ سفـل ذلـك صهريجـًا عظيمـًا يمـلأ فـي كـل سنة من ماء النيل وحوضًا عظيمًا لسقي الدواب وعمل بأعلـى الميضـأة ثلاثـة أماكـن برسـم جلوس المفتين الثلاثة يجلسون بها حصة من النهار لإفادة الناس بعد إملاء الدروس وقرر فيها الشيخ أحمد الدردير مفتي المالكية والشيخ عبد الرمن العريشي مفتـي الحنفيـة والشيـخ حسـن الكفـراوي مفتـي الشافعيـة. ولمـا تـم البنـاء فرشـت جميعها بالحصر ومن فوقها الأبسطة الرومي من داخل وخارج حتى فرجات الشبابيك ومساكن الطباق. ولما استقر جلوس المفتين المذكورين بالثلاثة أماكن التي أعدت لهم أضر بهم الرائحة الصاعدة إليهم من المراحيـض التـي مـن أسفـل وأعلمـوا الأميـر بذلـك فأمر بإبطالها وبنوا خلافها بعيدًا عنها وتقرر في خطابتها الشيخ أحمد الراشدي وغالب المدرسين بالأزهر مثل الشيخ علي الصعيدي مدرس البخاري والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الرحمـن العريشـي والشيـخ حسن الكفراوي والشيخ أحمد يونس والشيخ أحمد السمنودي والشيخ علي الشنويهي والشيخ عبـد اللـه اللبـان والشيـخ محمد الحفناوي والشيخ محمد الطحلاوي والشيخ حسن الجداوي والشيخ أب الحسـن القلعـي والشيـخ البيلـي والشيـخ محمد الحريري والشيخ منصور المنصوري والشيخ أحمد جاد الله والشيخ محمد المصيلحي ودرسا ليحيى أفندي شيخ الأتراك. وتقرر السيد عباس إمامـًا راتبـًا بها وفي وظيفة التوقيت الشيخ محمد الصبان وجعل بها خزانة كتب عظيمة وجعل خازنها محمد أفندي حافظ وينوب عنه الشيخ محمد الشافعي الجناجـي ورتـب للمدرسيـن الكبـار فـي كـل يـوم مائـة وخمسيـن نصفـًا فضـة ولمن دونهم خمسون نصفًا وكذلك للطلبة منهم من له عشرة أنصاف في كل يوم ومنهم من له أكثر وأقل ويقدر عدد الدراهم أرادب من البرفي كل سنـة. ولمـا انتهـى أمرهـا وصلـى بهـا الجمعـة فـي شهـر شعبـان سنـة ثمـان وثمانيـن حضـر الأميـر المذكـور واجتمع المشايه والطلبة وأرباب الوظائف وصلوا بها الجمعة وبعد انقضاء الصلاة جلس الشيخ الصعيدي علـى الكرسـي وأملـى حديـث مـن بنـى للـه مسجـدًا ولـو كفحـص قطـاة بنـى اللـه لـه بيـت فـي الجنة. فلما انقضى ذلك أحضرت الخلع والفراوي فألبس الشيخ الصعيدي والشيخ الراشدي الخطيـب والمفتيـن الثلاثـة فـراوي سمـور وباقـي المدرسيـن فـراوي نافـا بيضـا وأنعـم فـي ذلـك اليـوم علـى الخدمة والمؤذنين وفرق عليهم الذهب والبقاشيش وتنافس الفقهاء والأشياخ والطلبة وتحاسدوا وتفاتنـوا ووقـف علـى ذلـك أمانـة قويسنا وغيرها والحوانيت التي أسفل المدرسة ولم يصرف ذلك إلا سنـة واحـدة فـإن المترجـم سافـر فـي أوائـل سنـة تسع وثمانين إلى البلاد الشامية كما تقدم ومات عناك ورجعوا برمته وتآمر أتباعه وتقاسموا البلاد فيما بينهم ومن جملتها أمانة قويسنا الموقوفة فبـرد أمـر المدرسة وعوضوا عن ذلك الوكالة التي أنشأها علي بك ببولاق لمصرف أجرة وعليق الأثوار بعدما أضعفوا المعاليم ونقصوها ووزعوا عليهم ذلك الإيراد القليل ولم يزل الحال يتناقص ويضعـف حتـى بطـل منهـا غالـب الوظائـف والخـدم إلـى أن بطـل التوقيـت والـآذان بـل والصلـاة في أكثر الأوقات وأخلق فرشها وبسطها وعتقت وبليت وسرق بعضها وأغلق أحد أبوابها المواجه للقبوة الموصـل للمشهد الحسيني بل أغلقت جميعها شهورًا مع كون الأمراء أصحاب الحل والعقد أتباع الواقـف ومماليكـه لكـن لمـا فقـدت منهم القابلية واستولى عليهم الطمع والتفاخر والتنافس والتغاضـي خـوف الفشـل وتفـرق الكلمـة مـن الانحـراف عـن الأوضاع ظهر الخلل في كل شيء حتى في الأمور الموجبة لنظام دولتهم وإقامة ناموسهم كما يتضح ذلك فيما بعد. وبالجملـة فـإن المترجـم كان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة وسعدًا وحزمًا وعزمًا وحكمًا وسماحة وحلمًا وكان قريبًا للخير يحب العلمـاء والصلحـاء ويميـل بطبعـه إليهـم ويعتقـد فيهـم ويعظمهم وينصت لكلامهم ويعطيهم العطايا الجزيلة ويكره المخالفين للدين ولم يشتهر عنه شيء من الموبقات والمحرمات ولا ما يشينه في دينه أو يخل بمروءته بهي الطلعة جميل الصورة أبيض اللون معتدل القامة والبدن مسترسل اللحية مهاب الشكل وقورًا محتشمًا قليل الكلام والالتفات ليـس بمهـدأ ولا خـوار ولا عجـول مبجلًا في ركوبه وجلوسه يباشر الأحكام بنفسه ولولا ما فعله آخـرًا مـن الإسـراف فـي قتل أهل يافا بإشارة وزرائه لكانت حسناته أكثر من سيآته. ولم يتفق لأميـر مثلـه فـي كثـرة المماليـك وظهـور شأنهـم فـي المـدة اليسيـرة وعظـم أمرهـم بعـده وانحرفـت طباعهم عن قبول العدالة ومالوا إلى طرق الجهالة واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم وزادوا عن سوابقهـم وألفـوا المظالـم وظنوها مغانم وتمادوا على الجور وتلاحقوا في البغي على الفور إلى أن حصل ما حصل ونزل بهم وبالناس ما نزل. وسيتلى عليك من ذلك أنباء وأخبار وما حل بالإقليم بسببهم من الخراب والدمار والله تعالى أعلم. سنة تسعين ومائة وألف كـان سلطـان العصـر فيها السلطان عبد الحميد بن أحمد خان العثماني ووالي مصر الوزير محمد باشـا عـزت الكبيـر وأمراؤهـا إبراهيـم بـك ومـراد بيـك مملوكـًا محمـد بيك أبي الذهب وخشداشينهما أيـوب بيـك الكبيـر ويوسـف بيـك أميـر الحـاج ومصطفى بيك الكبير وأحمد بيك الكلارجي وأيوب بيـك الصغيـر ومحمـد بيـك طبـل وحسـن بيـك سـوق السلـاح وذو الفقـار بيك ولاجين بيك ومصطفى بيك الصغير وعثمان بيك الشرقاوي وخليل بيك الإبراهيمي ومن البيوت القديمة حسن بيك قصبة رضوان ورضوان بيك بلفيا وإبراهيم بيك طبان وعبد الرحمن بيك عثمان الجرجاوي وسليمـان بيـك الشابـوري وبقايـا اختياريـة الوجاقات مثل أحمد باشجاويش أرنؤد وأحمد جاويـش المجنـون واسمعيـل أفنـدي الخلوتـي وسليمـان البرديسـي وحسن أفندي درب الشمسي وعبد الرحمن أغا مجرم ومحمد أغا محرم وأحمد كتخدا المعروف بوزير وأحمد كتخدا الفلاح وباقي جماعة الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وغيرهم والأمراء والنهي للأمراء المحمديـة المتقـدم ذكرهـم وكبيرهم وشيخ البد إبراهيم بيك ولا ينفذ أمر بدون اطلاع قسيمة مراد بيك واسمعيل بيك الكبير متنزه ومنعكف في بيته وقانع بإيراده وبلاده ومنزو عن التداخل فيهم من موت سيدهم وعمر داره التي بالأزبكية وأقام بها. وفيهـا فـي يـوم الخميـس سابـع شهـر صفر وصل الحج إلى مصر ودخل الركب وأمير الحاج يوسف بيك. وفـي ليلـة الجمعـة تاسع صفر وقع حريق بالأزبكية وذلك في نصف الليل بخطة الساكت احترق فيها عدة بيوت عظام وكان شيئًا مهولًا ثم إنها عمرت في أقرب وقت والذي لم يقدر على العمارة باع أرضه فاشتراها القـادر وعمرهـا فعمـر رضـوان بيـك بلفيـا دارًا عظيمـة وكذلـك الخواجـا السيـد عمـر غـراب والسيـد أحمـد عبد السلام والحاج محمود محرم بحيث أنه لم يأت النيل وفيها سقط برع بسوق الغورية ومات فيه عدة كثيرة من الناس تحت الردم ثم إن عبد الرحمن أغا مستحفظان أخذ تلك الأماكن من أربابهـا شـراء وأنشـأ الحوانيـت والربـع علوهـا والوكالـة المعروفة الآن بوكالة الزيت والبوابة التي يسلك منها من السوق. وفيهـا حضـر جماعة من الهنود ومعهم فيل صغير ذهبوا به إلى قصر العيني وأدخلوه بالإسطبل الكبيـر وهـرع الناس للفرجة عليه ووقف الخدم على أبواب القصر يأخذون من المتفرجين دراهم وكذلك سواسة الهنود جمعوا بسببه دراهم كثيرة وصار الناس يأتون إليه بالكعك وقصـب السكر ويتفرجون على مصه في القصب وتناوله بخرطومه وكان الهنود يخاطبونه بلسانهم ويفهم كلامهم وإذا أحضروه بين يدي كبير كلموه فيبرك على يديه ويشير بالسلام بخرطومه. وفيهـا فـي شهـر رمضـان تعصـب مـراد بيـك وتغيـر خاطـره على إبراهيم بيك طنان ونفاه إلى المحلة الكبيرة وفرق بلاده على من أحب ولم يبق له إلا القليل. وفيها شرع الأمير اسمعيل بك في عمل مهم لزواج ابنه وهي من زوجته هانم بنت سيدهم إبراهيـم كتخـدا الـذي كـان تزوجهـا في سنة أربع وسبعين بالمهم المذكور في حوادث تلك السنة وكـان ذلـك المهـم فـي أوائـل شهـر ذي الحجـة وكـان قبـل هـذا المهـم حصـل بينـه وبين مراد بك منازعة ومخاصمة وسببها أن مراد بك أراد أن يأخذ من اسمعيل بك السر ورأس الخليج فوقع بينهما مشاحنـة ومخاصمـة كـاد يتولـد منهـا فتنـة فسعـى فـي الصلـح بينهمـا إبراهيـم بك فاصطلحا على غل وشـرع فـي أثـر ذلـك اسمعيـل بـك فـي عمـل الفـرح فاجتمعـوا يـوم العقـد فـي وليمـة عظيمـة ووقـف مراد بك وفرق المحارم والمناديل على الحاضرين وهو يطوف بنفسه على أقدامه وعمل المهم أيامًا كثيـرة ونـزل محمـد باشـا عزت باستدعاء إلى بيت اسمعيل بك وعندما وصل إلى حارة قوصول نزل الأمراء بأسرهم مشاة على أقدامهم لملاقاته فمشوا جميعًا أمامه على أقدامهـم وبأيديهـم المباخر والقماقم ولم يزالوا كذلك حتى طلع إلى المجلس ووقفوا في خدمته مثل المماليك حتى انقضى الطعام والشربات وقدموا له الهدايا والتقادم والخيول الكثيرة المسمومة ولما انقضت أيام الولائم زفوا العروس إلى زوجها إبراهيم أغا الذي صنجقه اسمعيل بك وهو خازنداره ومملوكه ويسمونـه قشطة وكانت هذه الزفة من المواكب الجليلة ومشى فيها الفيل وعليه خلعة جوخ أحمر فكان ذلك من النوادر. ومـات فـي هـذه السنـة الفقيه المتفنن العلامة الشيخ أحمد بن محمد ابن محمد السجاعي الشافعي الأزهـري ولـد بالسجاعيـة قـرب المحلة وقدم الأزهر صغيرًا فحضر دروس الشيخ العزيزي والشيخ محمد السجيني والشيخ عبده الديوي والسيد علي الضرير فقهـر ودرس وأفتـى وألـف وكـان ملازمـًا علـى زيـارة قبور الأولياء ويحيي الليالي بقراءة القرآن مع صلاح وديانة وولاية وجذب وله مع الله حال غريب وهو والد الشيخ الأوحد أحمد الآتي ذكره في تاريخ موته. توفي المترجم رحمه الله تعالى في عصر يوم الأربعاء ثامن عشرين ذي القعدة. ومات الشيخ الإمام الفقيه العلامة الشيخ عطية بن عطية الأجهوري الشافعي البرهاني الضرير ولد بأجهور الورد إحدى قرى مصر وقـدم مصـر فحضـر دروس الشيـخ العشمـاوي والشيـخ مصطفـى العزيـزي وتفقه عليهما وعلى غيرهما وأتقن في الأصول وسمع الحديث ومهر في الآلات وأنجب ودرس المنهج والتحرير مرارًا وكذا جمع الجوامع بمسجد الشيخ مطهر وله في أسباب النزول مؤلف حسن في بابه جامع لما تشتت من أبوابه وحاشية على الجلالين مفيدة وكذلك حاشية على شرح الزرفاني على البيقونية في مصطلح الحديث وغير ذلك وقد حضر عليه غالـب علمـاء مصر الموجودين واعترفوا بفضله وأنجبوا ببركته وكان يتأنى في تقريره ويكرر الإلقاء مـرارًا مراعاة للمستملين الذين يكتبون ما يقوله ولما بنى المرحوم عبد الرحمن كتخدا هذا الجامع المعروف الآن بالشيخ مطهر الذي كان أصله مدرسة للحنفية وكانت يعرف بالسيوفيين بنى للمترجم بيتًا بدهليزها وسكن فيه بعياله وأولاده. توفي في أواخر رمضان. ومات الشيخ الفاضل النجيب احمد بن محمد بن العجمي الشافعي كان شابًا فهيمًا داركًا ذا حفظ جيد حضر على علماء العصر وحصل المعقول والمنقول وأدرك جانبًا من العلوم والمعارف ودرس وأملى ولـو عـاش لانتظـم فـي سلـك أعاظـم العلمـاء ولكـن اخترمتـه المنيـة فـي يـوم الاثنيـن حـادي عشرين جمادى الآخرة. ومات الشيخ الصالح الورع الناسك أحمد بن نور الدين المقدسي الحنفي إمام جامع قجماس وخطيبه بالدرب الأحمر وهو أخو الشيخ حسن المقدسي مفتي السادة الحنفية شارك أخاه الشيخ حسنًا المذكور في شيوخه واشتغل بالعلم وكان شيخًا وقورًا بهي الشكل مقبلًا على شأنه منجمعًا عن الناس. توفي ليلة الاثنين سادس عشر ربيع الأول. ومات الفقيه الفاضل الشيخ إبراهيم بن خليل الصيحاني الغزي الحنفي ولد بغزة وبها نشأ وقرأ بعـض المتـون علـى فضـلاء بلده وورد الجامع الأ. هر فحضر الدروس ولازم المرحوم الوالد حسنًا الجبرتـي وتلقـى عنـه الفقـه وبعـض العلـوم الغريبـة ثـم عـاد إلـى غـزة وتولـى الإفتـاء بالمذهب وكان يرسل إلى الوالـد فـي كـل سنـة جانبـًا مـن المـوز المـر فـي غلـق مقـدار عشريـن رطـلًا فنخـرج دهنـه ونرفعـه فـي الزجاج لنفع الناس في الدهن ومعالجات بعض الأمراض والجروحات ولم يزل على ذلك حتى ارتحل إلى دمشق وتولى أمانة الفتوى بعد الشيخ عبد الشافي فـي فسـار أحسـن سيـر. وتوفـي بهـا فـي هذه السنة في عشر التسعين رحمه الله. ومات الفقيه الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد بن نصر بن هيكل ابن جامع الشنويهي تفقه على جماعة من فضلاء العصر وكان يحضر درس الحديث في كل جمعة على السيد البليدي ودرس بالأزهـر وانتفـع بـه الطلبـة وكـان مشهورًا بمعرفة الفروع الفقهية وكان درسه حافلًا جدًا وله حـظ فـي كثـرة الطلبـة وكـان الأشيـاخ يتضايقـون مـن حلقـة درسـه فيطردونه من المقصورة فيخرج إلى الصحن فتملأ حلقة درسه صحن الجامع وفـي بعـض الأحيـان ينتقـل إلـى مدرسـة السنانيـة بجماعته وكان يخطب بجامع الأشرفية بالوراقين وخطبته لطيفة مختصرة وقرأ المنهج مرارًا وكان شديـد الشكيمـة علـى نهـج السلـف الـأول لا يعـرف التصنع وكان يخبر عن نفسه أنه كان كثير الرؤيا للنبـي صلـى اللـه عليه وسلم إنه لما تنزل مدرسًا في المحمدية من جملة الجماعة انقطع عنه ذلك وكان يبكي ويتأسف لذلك. توفـي فـي ثامـن عشـر شعبـان وأملـى نسبـه علـى الدكـة إلـى سيدنـا علـي رضي الله عنه. ومـات الأميـر الكبيـر الشهيـر عثمـان بـك الفقـاري بإسلامبـول فـي هـذه السنـة وكان مدة غربته ببرصا واسلامبول نيفًا وأربعًا وثلاثين سنة وقد تقدم ذكره وذكر مبدأ أمره وظهوره وسبب خروجه مـن مصـر مـا يغنـي عـن إعـادة بعضـه وهـو أمـر مشهـور وإلـى الـآن بيـن النـاس مذكور حتى أنهم جعلوا سنة خروجه تاريخًا يؤرخون به وفياتهم ومواليدهم فيقولون ولد فلان سنة خروج عثمان بك ومات فلان بعد خروج عثمان بك بسنة أو شهر مثلًا. ومات الأمير عبد الرحمن كتخدا وهو بن حسن جاويش القزدغلي أستاذ سليمـان جاويـش أستـاذ ابراهيـم كتخـدا مولـى جميـع الأمـراء المصرييـن الموجوديـن الـآن. وخبـره ومبـدأ إقبال الدنيا عليه أنـه لمـا مـات عثمـان كتخـدا القازدغلـي واستولـى سليمـان جاويـش الجوخـدار على موجوده ولم يعط المترجم الذي هو ابن سيد أستاذه شيئًا ولم يجد من ينصفه في إيصال حقه من طائفة باب الينكجريـة حسـدًا منهـم وميـلًا لأهوائهـم وأغراضهـم فحنـق منهم وخرج من بابهم وانتقل إلى وجاق العـزب وحلـف أنـه لا يرجـع إلى وجاق الينكجرية ما دام سليمان جاويش الجوخدار حيًا وبر في قسمه فإنه لما مات سليمان جاويش ببركة الحاج سنة 1152 كما تقدم بادر سليمان كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا واستأذن عثمان بك في تقليد عبد الرحمـن جاويـش السردارية عوضًا عن سليمان جاويش لأنه وارثه ومولاه وأحضروه ليلًا وقلدوه ذلك وأحضر الكاتب والدفاتر وتسلـم مفاتيـح الخشخانـات والتركـة بأجمعهـا وكـان شيئـًا يجـل عـن الوصـف وكذلك تقاسيط البلاد ولم تطمع نفس عثمان بك لشيء من ذلك وأخذ المترجم غرضه من بـاب العـزب ورجع إلى باب الينكجرية ونما أمره من حينئذ وحج صحبة عثمان بك في سنة خمس وخمسين وأقام هناك إلى سنة إحدى وستين فحضر مع الحجاج وتولى كتخدا الوقت سنتيـن وشـرع فـي بنـاء المساجـد وعمـل الخيـرات وإبطـال المنكـرات فأبطـل خمامير حارة اليهود فأول عماراتـه بعد رجوعه السبيل والكتاب الذي يعلوه بين القصرين وجاء في غاية الظرف وأحسن المباني وأنشأ جامع المغاربة وعمل عند بابه سبيـلًا بمنـارة وصهريـج وكتـاب ومدفـن السيـد السطوحية وأنشأ بالقرب من تربة الأزبكية سقاية وحوضًا لسقي الدواب ويعلوه كتاب وفي الحطابة كذلك وعند جامع الدشطوطي كذلك وأنشأ وزاد في مقصور الجامع الأزهر مقدار النصف طولًا وعرضًا يشتمل على خمسين عامودًا من الرخام تحمل مثلها من البوائك المقوصرة المرتفعـة المتسعـة مـن الحجـر المنحـوت وسقـف أعلاهـا بالخشـب النفـي وبنـى به محرابًا جديدًا ومنبرًا وأنشـأ لـه بابـًا عظيمـًا جهة حارة كتامة وبنى بأعلاه مكتبًا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام من أطفال المسلمين القرآن وبداخله رحبة متسعة وصهريج عظيم وسقاية لشرب العطاش المارين وعمل لنفسه مدفنًا بتلك الرحبة وعليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة وبها أيضًا رواق مخصوص بمجاوري الصعائدة المنقطعين لطلب العلم يسلك إليه من تلك الرحبة بدرج يصعد منه إلى الرواق وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزائن كتـب وبنـى بجانب ذلك الباب منارة وأنشأ بابًا آخر جهة مطبخ الجامع وعليه منارة أيضًا. وبنى المدرسة الطيبرسية وأنشأها نشوأ جديدًا وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية المقابلة لهـا مـن داخـل البـاب الكبيـر الـذي أنشـأه خارجهمـا جهـة القبـو الموصـل للمشهـد الحسينـي وخان الجراكسة وهو عبارة عن بابين عظيمين كل باب بمصراعين وعلى يمينهما منارة وفوقه مكتب أيضًا وبداخله على يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة وأنشأ لها ساقية لخصوص إجراء المال إليهـا وبداخـل بـاب الميضأة درج يصعد منه للمنارة ورواق البغداديين والهنود فجاء هذا الباب ومـا بداخلـه مـن الطيبرسيـة والآقبغاويـة والأورقـة مـن أحسـن المبانـي فـي العظم والوجاهة والفخامة وعمل عند باب القبـة الصهريـج والمقصـورة الكبيـرة التـي بهـا ضريح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فيما بين المسجد ودهليـز القبـة وفـرش طريـق القبـة بالرخـام الملـون يسلـك إليـه بدهليـز طويـل متسـع وعليـه بوابـة كبيرة من داخـل الدهليـز البرانـي وعلـى الدهليـز البرانـي مـن كلتا الجهتين بوابتان. وعمر أيضًا لمشهد النفيسي ومسجده وبنى الصهريج على هذه الهيئة الموجودة وجعل لزيارة النساء طريقًا بخلاف طريق الرجال. وبنى أيضًا مشهد السيد زينب بقناطر السباع ومشهد السيدة سكينة بخط الخليفة والمشهـد المعـروف بالسيـدة عائشـة بالقـرب مـن بـاب القرافـة والسيـدة فاطمـة والسيـدة رقية والجامـع والرباط بحارة عابدين وكذلك مشهد أبي السعود الجارحي على الصفة التي هو عليها الآن ومسجد شرف الدين الكردي بالحسينية. ومسجدًا بخط الموسكي وبنى للشيخ الحنفي دارًا بجـوار ذلك المسجد وينفذ إليه من داخل. وعمر المدرسة السيوفية المعروفة بالشيخ مطهر بخطبات الزهومة وبنى لوالدته بها مدفنًا. وأنشأ خارج باب القرافة حوضًا وسقاية وصهريجًا وجدد المارستان المنصوري وهـدم أعلـى القبـة الكبيـرة المنصوريـة والقبـة التـي كانـت بأعلـى الفسحـة مـن خـارج ولـم يعـد عمارتهما بل سقف قبة المدفن فقط وترك الأخرى مكشوفة ورتب له خيرات وأخبازًا زيادة على البقايا القديمة ولما عزم على ترميمه وعمارتـه أراد أن يحتـاط بجهات وقفه فلم يجد له كتاب وقفف ولا دفترًا وكانت كتب أوقافه ودفاتره في داخل خزانة المكتب فاحترقت بما فيها من كتب العلم والمصاحف ونسخ الوقفيات والدفاتر ووقفه يشتمل على وقف الملك المنصور قلاون الكبير الأصلي ووقف ولده الملك الناصر محمد ووقف بن الناصر أبي الفدا اسمعيل بل وغير ذلك من مرتبات الملوك من أولادهم ثم إنه وجد دفترًا من دفاتر الشطب المستجدة عند بعض المباشرين وذلك بعد الفحص والتفتيش فاستدل به على بعض الجهات المحتكرة. وللمترجم عمائر كثيرة وقناطر وجسور في بلاد الأرياف وبلاد الحجاز حيـن كـان مجـاورًا هنـا. وبنـى القناطـر بطندتـا فـي الطريـق الموصلـة إلـى محلـة مرحـوم والقنطـرة الجديدة الموصلـة إلـى حـارة عابديـن مـن انحيـة الخلوتـي علـى الخليج وقنطرة بناحية الموسكي ورتب للعميان الفقـراء الأكسيـة الصوف المسماة بالزعابيط فيفرق عليهم جملة كثيرة من ذلك عند دخول الشتاء فـي كـل سنة فيأتون إلى داره أفواجًا في أيام معلومة ويعودون مسرورين بتلك الكساوي وكذلك المؤذنون يفرق عليهم جملة من الإجرامات الطولونية يرتدون بها وقت التسبيح في ليالي الشتاء وكذلك يفرق جملة من الحبر المحلاوي والبر الصعيدي والملايات والأخلاف والبوابيج القيصرلي علـى النسـاء الفقيـرات والأرامـل ويخـرج عنـد بيتـه فـي ليالـي رمضـان وقت الإفطار عدة من القصاع الكبـار المملـوءة بالثريـد المسقـي بمـرق اللحـم والسمـن للفقـراء المجتمعيـن ويفرق عليهم النقيب هبر اللهم النضيج فيعطى لكل فقير جعله وحصته في يده وعندما يفرغون من الأكل يعطى لكل واحد منهـم رغيفيـن ونصفـي فضـة برسـم سحـوره إلـى غيـر ذلـك. ومن عمائره القصر الكبير المعروف به بشاطـئ النيـل فيمـا بيـن بولـاق ومصـر القديمـة وكـان قصـرًا عظيمًا من الأبنية الملوكية وقد هدم في سنة 1205 بيد الشيخ علي بن حسن مباشرًا لوقف وبيعت أنقاضه وأخشابه ومات المباشر المذكور بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر. ومن عمائره أيضًا دار سكنه بحارة عابدين وكانت من الدور العظيمة المحكمة الوضع والاتقان لا يماثلها دار بمصر في حسنها وزخرفة مجالسها وما بها من النقوش والرخام والقيشاني والذهب المموه واللازورد وأنواع الأصباغ وبديع الصنعة والتأنق والبهجة وغرس بها بستانًا بديعًا بداخله قاعة متسعة مربعة الأركان بوسطها فسقية مفروشة بالرخام البديع الصنعة وأركانها مركبة على أعمدة من الرخام الأبيض وغير ذلك من العمارات حتى اشتهر ذكره بذلك وسمي بصاحـب الخيـرات والعمائـر فـي مصـر والشـام والـروم وعـدة المساجـد التـي أنشأهـا وجدهـا وأقيمـت فيهـا الخطبـة والجمعة والجماعة ثمانية عشر مسجدًا وذلك خلـاف الزوايـا والأسبلـة والسقايـات والمكاتـب والأحـواض والقناطـر والمربـوط للنسـاء الفقيرات والمنقطعـات. وكـان لـه فـي هندسـة الأبنيـة وحسـن وضـع العمائـر ملكـة يقتـدر بهـا علـى ما يروعه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة. ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر من الزيـادة والعمـارة التـي تقصـر عنهـا همـم الملوك لكفاه ذلك وأيضًا المشهد الحسيني ومسجده والزيني والنفيسـي وضـم لوقفـه ثلاث قرى من بلاد الأرز بناحية رشيد وهي تفينة وديبي وحصة كتامة وجعـل إيرادهـا ومـا يتحصـل من غلة أرزها لمصارف الخيرات وطعام الفقراء والمنقطعين وزاد في طعـام المجاوريـن بالأزهـر ومطبخهـم الهريسـة فـي يومـي الاثنيـن والخميـس وقد تعطل غالب ذلك في هذا التاريخ الذي نحن فيه لغاية سنة 1220 بسبب استيـلاء الخـراب وتوالـي المحـن وتعطـل الأسبـاب. ولـم يـزل هـذا شأنـه إلـى أن استفحـل أمـر علـي بـك وأخرجـه منفيـًا إلـى الحجـاز وذلـك فـي أوائـل شهـر القعـدة 1178 فأقـام بالحجـاز اثنتـي عشـرة سنـة فلمـا سافـر يوسـف بـك أميرًا بالحاج في السنـة الماضيـة صمـم علـى إحضـاره صحبتـه إلـى مصـر فأحضـره فـي تختـروان وذلـك فـي سابع شهر صفـر سنـة 1190 وقـد استولـى عليـه العـي والهـرم وكـرب الغربـة فدخـل إلى بيته مريضًا فأقام أحد عشر يومًا ومات فغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته في مشهد حافـل حضـره العلمـاء والأمـراء والتجـار ومؤذنـو المساجـد وأولـاد المكاتـب التـي أنشأهـا ورتب لهم فيها الكساوي والمعاليم في كل سنة وصلوا عليه بالأزهر ودفن بمدفنه الذي أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلي. ولم يخلـف بعـده مثلـه رحمـه اللـه. ومن مساويه قبول الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهـم واقتـدى بـه فـي ذلـك غيـره حتـى صـارت سنـة مقـررة وطريقـة مسلوكـة ليست منكرة وكذلك المصالحـة علـى تركـات الأغنياء التي لها وارث ومن سيآته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررهـا وعم الإقليم خرابها وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها معاضدته لعلي بك ليقوى به على أرباب الرئاسة فلم يزل يلقي بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض ويسلط عليهم علي بك المذكور حتى أضعف شوكات الأقوياء وأكد العداوة بين الأصفياء واشتد ساعد علي بك فعنـد ذلـك التفـت إليـه وكلـب بنابـه عليـه وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه فلم يجد عند ذلك مـن يدافـع عنـه وأقـام هـذه المـدة فـي مكـة غريبـًا وحيـدًا وأخـرج أيضـًا فـي اليـوم الـذي أخرجـه فيه نيفًا وعشرين أميرًا من الاختيارية كما تقدم. فعند ذلك خلا لعلي بك وخشداشينه الجو فباضوا وأفرخـوا وامتد شرهم إلى الآن الذي نحن فيه كما سيتلى عليك بعضه فهو الذي كان السبب بتقديـر اللـه تعالـى فـي ظهـور أمرهـم فلـو لـم يكـن لـه مـن المسـاوئ إلا هـذه لكفـاه ولمـا رجع من الحجاز متمرضـًا ذهـب إليـه إبراهيـم بـك ومـراد بـك وباقـي خشداشينهم ليعودوه ولم يكن رآهم قبل ذلك فكـان مـن وصيتـه لهـم: كونـوا مـع بعضكـم واضبطـوا أمركـم ولا تداخلـوا الأعـادي بينكـم. وهذا بدل عن قوله أوصيكم بتقوى الله تعالى وتجنبوا الظلم وافعلوا الخير فإن الدنيا زائلة وانظروا حالي ومالـي أو نحـو ذلك هكذا أخبرني من كان حاضرًا في ذلك الوقت وكان سليط اللسان ويتصنع الحماقة فغفر الله لنا وله رأيته مرة وأنا إذ ذاك في سن التمييز قبل أن ينفى إلى الحجاز وهو مـاش فـي جنـازة مربـوع القامـة أبيـض اللـون مسترسـل اللحية ويغلب عليها البياض مترفهًا في ملبسه معجبًا بنفسه يشار إليه بالبنان.
|